سوريا- من الأيديولوجيا إلى الدولة المدنية، آمال وتحديات ما بعد الصراع

المؤلف: محمد الساعد10.22.2025
سوريا- من الأيديولوجيا إلى الدولة المدنية، آمال وتحديات ما بعد الصراع

يذكر العلامة ابن خلدون مقولته الشهيرة: "العصبيات السياسية لا تستقيم إلا بنزعة دينية"، مؤكداً بذلك أن أي مشروع سياسي يصبو إلى النجاح لا بد له من سند أيديولوجي راسخ. هذه الحقيقة ليست مجرد فرضية في علم الاجتماع السياسي، بل هي خلاصة دروس التاريخ وتجاربه المتراكمة. فالرئيس الراحل حافظ الأسد ونخبته الحاكمة لم يتمكنوا من بسط نفوذهم على سوريا دون الاستناد إلى أيديولوجيا حزب البعث، سواء اتفقنا معها أم اختلفنا. لقد كانت هذه الأيديولوجيا بمثابة الحاضنة التي احتضنتهم، والمنصة التي بررت لهم ممارساتهم السلطوية، وهو السيناريو ذاته الذي تكرر في العراق البعثي.

المشروع السوري الجديد يطمح إلى تجاوز الإيديولوجيا الدينية والارتقاء إلى دولة حديثة، وذلك عبر مسار سياسي حذر وشديد الحساسية، في ظل عالم يعج بالصراعات والحروب المتفاقمة. هذا التحول يتطلب حاضنة قادرة على التحمل والصبر، حاضنة تتقبل الاجتهادات، وتتفهم العثرات، بل وتستوعب الأخطاء المحتملة، ثم تقوم بتنبيه المشروع وتقويمه، حتى يتمكن من الوقوف على قدميه بثبات، وصولاً إلى تحقيق شكل الدولة المدنية المنشود.

مما لا شك فيه أن المنطقة المحيطة بسوريا تزخر بنماذج سياسية متنوعة، تتراوح بين الراديكالية والقومية والتنموية. ومرحلة الدولة الهجينة، التي تجمع بين الدين والمدنية، يمكن أن تحقق النجاح المنشود إذا ما تبنت البراغماتية السياسية في التعامل مع مختلف المكونات الثقافية، وانتهجت العقلانية في التعاطي مع الفضاء العربي والغربي على حد سواء، وعملت على تلبية الاحتياجات اليومية للشعب السوري الذي بذل الغالي والنفيس للتخلص من الماضي المؤلم بكل ما يحمله من مرارة.

لا جدال في أن المنطقة قد شهدت تحولات عميقة وهزات عنيفة في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر، وتحديداً في العام 2024. هذه التحولات يصعب على الكثيرين استيعابها، ويجد البعض صعوبة في تقبل نتائجها، خاصة أولئك الذين استفادوا من المرحلة السابقة، ووضعوا خططاً لتقويض استقرار المنطقة تحت ستار الشعارات الشعبوية، التي سرعان ما تهاوت مع أول اختبار حقيقي.

على الرغم من أن الخارطة الجيوسياسية للمنطقة لم تتبلور بعد بشكل كامل، فإن بيروت لا تزال رازحة تحت وطأة هدنة هشة مع إسرائيل، قابلة للانفجار في أي لحظة. أما غزة، فإنها تناضل من أجل التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل، يحفظ لها ما تبقى من مقومات الحياة. وفي المقابل، تحاول دمشق التأقلم مع نظام حكم مختلف عن نظام الاستبداد الذي جثم على صدرها لمدة خمسين عاماً، وتحلم بتعويض ما عانته من آلام على مدى عقود طويلة.

كل من يتعامل مع دمشق اليوم يلمس عن كثب كيف أن جميع الأطراف، شعباً وقيادات سياسية، يتحسسون خطاهم بحذر شديد، وكأنهم ولدوا من جديد، ودخلوا الحياة بتفاصيلها للمرة الأولى. أما الطرف الآخر، فإنه يسعى جاهداً لبناء مواقف متينة تستند إلى تقييم الواقع الجديد، خاصة في ظل المفاجأة التي أحدثها التسارع المذهل في سقوط النظام السابق. ويبدو أن توافقاً دولياً قد أتاح الفرصة أمام المعارضة لتولي مقاليد الحكم في دمشق، تماماً كما أتاح الفرصة ذاتها للمعارضة العراقية لحكم بغداد في وقت سابق، مع وعود براقة قدمها المبشرون بسوريا الجديدة، بأنها ستكون نموذجاً يحتذى به لدول الخليج في مجال التنمية، وتركيا في التقارب مع أوروبا.

إن التجارب التي خاضها السوريون في السابق تترك دائماً بصمة إبداعية واضحة في أعمالهم، أينما حلوا وارتحلوا، سواء في تركيا أو أوروبا أو البلدان العربية. فهم تجار ماهرون وعمال بارعون. ومن المتوقع أن تصبح سوريا الجديدة "دولة الهند" في المنطقة، تقدم خدمات الإنتاج والصناعات الأولية لأوروبا وأمريكا والعالم العربي بأسره. وتزداد الآمال مع وجود بشائر حول مشروع خط غاز ضخم يمر عبر أراضيها باتجاه تركيا والبحر الأبيض المتوسط، ليكون بديلاً واعداً لخط الغاز الروسي. وعندها، سيزهر الياسمين الدمشقي، وتتلألأ أنوار الحميدية، وترتوي قمة جبل قاسيون بالندى العليل، وينفتح ميناء اللاذقية على العالم أجمع، ويأفل نجم الغاز الروسي، وتتلاشى أزمة أوروبا مع شرقها الذي أنهكها وأنهك الروس والعالم بأسره.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة